نعيـــمة
احتكاك قوى ، آهة تصرخ ، ترسم لونا أحمر مرعوبا فوق الأسفلت الباهت هرول الناس وتحلقوا ..
مفردات الحزن تتطاير من ألسنة الناس تتوحد مع دموعهم فى نظرات جامدة .. شققت طريقى بينهم بصعوبة .. بحلقت تقهقرت .. صرختـى حفـرت فـى صـدرى حـروف أسمـها مخضـباً بدمـها (ن.ع.ي.م.ة) نعيمة.. هتف به لسانى ، نظرت لمكان جلستها المفضل بين رصيفين على ناصية منزلنا ، أطفال الحى يخافونها يقذفونها بالحجارة وأوراق الحلوى، تتهته بألفاظ غير مفهومة ..
كنت صديقتها الوحيدة منذ الطفولة بدأت صداقتنا وأنا فى المرحلة الابتدائية .. أعود من المدرسة أنظر لها فى صمت وأنا أسير فى يدى أمى التى كانت تظننى خائفة من نعيمة لأنى أتباطأ وأنا أسير أمامها تحمينى أمى بيديها ..
-لاتخافى ياصغيرتى .. إنها طيبة مسكينة .. لاتقوى على المشى، تزحف على الأرض مثل طفل رضيع ..
كانت نعيمة تطل من عينيها بصات غير التى توجهها لباقى الأطفال تحتوينى تبتسم فى عطف ، لم أستطيع تحديد عمرها أبداً ، قصيرة الشعر شعثاء لونها خمرى يميل للسمرة تلبس جلباباً رجالياً ممزق الأكمام ، دائما لونه فاتح وإن كان يبدو متسخاً تجلس فوق لوح من الخشب بعجلات صغيرة ، أعده لها فاعل خير ، تدفع الأرض بيديها فيسير بها حيث تريد، كثيرا ما تتركه وتزحف على ركبتها مثل الأطفال فطرفاها السفليان مشلولان ضامران عن الحركة منذ طفولتها التى توقفت عند سن الثامنة وتوقف عقلها كذلك ...
تجلس نعيمة من الصباح إلى قبيل المغرب وترحل لاندرى أين تنام ..
كنت أنظر فى عينيها والأطفال يلقونها بما فى أيديهم تٌرسَم على وجهها تعبيرات تنطق بما تعانيه من ذعر ورعب تخفى وجهها أحياناً وأحياناً أجدها ترد عليهم بكلمات مكسورة مشروخة متناثرة تخيفهم ، تركض خلفهم زحفاً تضحك ملء الدنيا وهى منتصرة عليهم تنظر لأعلى إلى شرفتى التى أرقبها منها وتشير بتحية عسكرية تبدو كمن أدى مهمته .. ثم تعود .. يوما كنت عائدة من المدرسة والتف حولى بعض الصبية يريدونه ضربى لأنى لا ألهو معهم بتلك المسكينة .. التصقت بالحائط أبكى فلا حيلة لى حتى سمعنا صوتها يهرول ناحيتنا تصرخ فيهم بجملها المكسورة غير المفهومة..
هربوا تاركين حقائبهم التى أخذت تقذف بها بعيداً كأنها ترد عليهم حجارتهم ...
كانت تلهث كمن يركض فى سباق عدو طويل ، ثم نظرت هادئة لوجهى المرعوب وربتت فوق يدى قائلة : (غول) أشارت إليهم مكررة (غول) ..( نار..نار) ثم أخذت تمثل لى كيف أن النار تخرج من عيونهم، ألسنتهم طويلة مثل السكين تقطع الرقبة !! أشياء كثيرة لم أفهمها فى وقتها .. مددت لها يدى بكيس من الحلوى فأخذته سعيدة وكانت لاتأخذ شيئاً من أحد حتى الطعام الذى يضعه لها أهالى الحى كانت تطعمه للقطط من حولها ..
تأكدت الصداقة بيننا بالنظرات والبسمات .. وقفت يوما أشترى بعض الحلوى من دكان تحت منزلنا ونسيت حقيبتى المدرسية وبعد أن صعدت للمنزل ومر الوقت .. اكتشفت ضياعها .. ارتعبت ، قفزت الدرج ، هرولت للدكان ، كان مغلقا .. عدت أجر أحزانى خائفة من تأنيب والدى .. وجدتها تركض لاهثة باللوح الخشبى خلفى سمعت صوته على الأرض .. التفت .. رافعة يديها بحقيبتى ..
-هل وجدتها ؟
أومأت لى ضاحكة .. نظرت لها فى شكر وإمتنان ...
لاأنسى نظرتها لى ، كان الليل قد جن ولعلها المرة الوحيدة التى تتأخر فيها نعيمة عن رحيلها .. كانت كالشمس تأتى مع البكور.. وترحل المغرب ولكنها أطالت الإشراق على حيناً من أجلى .. مرت سنواتى الأولى .. أكبر وصديقتى لاتكبر فى عينى أبدأً .. كان حوارنا صامتا.. دافئا سنوات من عمرينا.. وجاء يوم رحيلنا عن الحى كان يوما غريباً لاأنساه : السيارة تحمل أغراضنا .. أحمالنا .. ألملم عرائسى ومنمنماتى الصغيرة من فوق جدران حينا ، ذكرياتى ، طفولتى الجميلة مع رفيقاتى .. تعديت سن الثالثة عشرة عندما هجرنا هذا الحى لبلد بعيد ، كنت أشعر كأنهم ينزعوننى من جذورى .. الألم يعتصر قلبى .. ساقاى تترنحان فى خطوات بطيئة .. أمشى مطأطأة الرأس أجدها أمامى دموعها متحجرة نظرتها تطرح الكثير من الأسئلة : لماذا الرحيل ؟ وأين ؟ هل تعودين ؟ هل اراك مرة أخرى ؟ هل ... وهل ؟
تأملتها ودموعى تتساقط فوق وجهى ، فرت دمعة وسقطت على يديها قَبلتْ يديها .. أخرجت ورقة مجلة من طيات ثيابها فيها صورة حمامة بيضاء ، أشارت إلى بأصبعها ثم إلى الحمامة ..
أنا بعينها هذا الطائر الجميل .. قالت أنها ستحتفظ بها حتى تراها كلما اشتاقت إلى .. وضعتها فى ملابسها كجوهرة ثمينة .. ركعت على ركبتى .. ضممتها لصدرى : سأعود يانعيمة لكن لاأعرف متى سيكون هذا ؟
تركتها ورحلت ، كانت السيارة تطوى الطريق وصورة نعيمة وهى تركض خلف السيارة بلوحها الخشبى تدخل فى إطار داخل ذاكرتى ، كنت أسأل عنها رفيقتى فى خطاباتنا وتؤكد وجودها .. كثيرا ما تذكرت رقتها .. فهمت خوفها من الصبيان وهم يلقونها بالحجارة ، فهمت معنى كلمة ‘‘غول‘‘ و‘‘ نار‘‘ كانت تخالهم غيلانا تخرج من أفواههم ناراً وتدافع عن نفسها .
اليوم عدت لزيارة رفيقتى الوحيدة .. جمعتنى بها الحياة فى الجامعة واستمرت الصادقة.. كانت تقص على أن نعيمة مازالت تجلس نفس الجلسة ، مازالت تركض خلف الأطفال الأشقياء.
صديقتى تتعجب من حبى لنعيمة وتذكرى الدائم لها ..
لبيت دعوة صديقتى .. ودعوة نعيمة لى منذ عشر سنوات أن أعود لزيارتها .. نعيمة ، تراها تذكرنى ؟ وجدتنى أردد الاسم وأنا أصرخ باكية ، أشتاق لرؤياها .. نظرت مرة أخرىإليها وهى مغطاة بورق الصحف فى إنتظار أن تحملها سيارة الإسعاف التى كان صوتها يبتعد ودقات قلبى تعلو صارخة ، وشريط أسود يوضع على الإطار الذى يحمل صورة نعيمة فى ذاكرتى ...
*** *
نشرت بمجلة القصة سبتمبر 2... العدد 1.1