وجـــه آخـــر
أطرقت .. أغلقت جفنىَّ ، تعلقت بالسحاب ، كل شئ مستجاب إلا دعائى . العذاب أقطره لحظات من ونس ، ها هو ذا يعود .. يلتهم افكارى من جديد كالنار ، يبسط كفيه يحتوى خلجاتى ، ينفض الغبار عن ذاكرتى يفتح قفص الحريم ويطلق سراحى … أقص عليه كابوسا ينتابنى فى ليالى الممتدة ، أرى أن للبشر أنيابا ومخالب وعيونا تجرح عذريتى … لهم صوت يُسمع (همْ … همْ) يلهثون خلفي وأنا أركض ، أطرق كل الأبواب المنغلقة … فجأة أجد قفصا حديديا مفتوحا ، أدخل ، يغلق بقفل ذهبى مرصع بالماس … أصرخ ، يبتل الشعر الصابئ حول الرقبة … أزيحه بصعوبة … أمسح حبات العرق ، أرشف قطرات من ماء ، أستعيذ بالله ، أقرأ ما احفظه من أدعية وأغمض عينى وقلبى يدق ، حتى يغفل جفنى . قالت أمى :
- بيت العدل إن شاء الله .
أذكر سخريتك منها :
- أمك تريدك فى قفص الحريم .
أمازحك :
- وتكون أنت السجان .
تهاجمنى عيناك تباغتنى يداك بقبضة تعتصر معها قلبى الملهوف..
- لن أكون سجانا لك أول لغيرك… أعلمك الحرية. أن تكونى نفسك لا ما يرسمه لكي الآخرون ، الحب لا يحتاج لقالب يتجمد به ، الحب حرية وأنا حر …وأنت حرة … فلماذا مذاق الرق نرشفه نتلذذ به كأسا موروثا !!
- وماذا بعد الحب ؟
- لا شئ ، نحيا ، نكسر القيود ، نستنشق السعادة ، أرفض الحدود. فكانت كلماته تعتقل أفكارى، تروضها ، فأصبح صلصالا بين يديه يصنع منه عقلا تمرح فيه معتقداته وتنمو وأروج لها بين حنايا القلب فأكون حمامة زاجلة تمارس الحرية المرسومة لها بهدف ، كثيرا ما واجهته برفضي لأفكاره وشعارات الحرية المسجونة بين شفتيه . لكنى أعود أرشفها من فوقها بسعادة وقناعة .
تزوجت صديقاتى ، أنجبن ، وأنا أدور فى فلكه … حذرتنى أمى: فاتك قطار الزواج ، لا خيار لك فلتقبلى أول طارق يأتى … كفاك عنادا يا أبنتى . أنهمك فى عملى … أروج لأفكاره … أقنع نفسى: ليس الزواج ما أبغى ولا الأولاد من يخلدون أسمى … بل عملى … نشر أفكارى … كسر قوالب الجمود ووثن التقاليد.
ضمتنى أمى لصدرها :
- إن كان يحبك فليتزوجك وإن كانت إمكاناته ضعيفة … لا بأس … أيامك تنسلت هاربة … لن تعود .
همست له بما قالته أمي فجاء رده صلفا جارحا :
- تريدين بيتا واولاداً … وعلاقات تئد الحب الذى بيننا … تتحولين لامرأة عادية تصرخ طوال اليوم بطلبات وأتحول لثور يدور فى ساقية.
أمسك لسانى عن الكلام ، تفحصته … ضمنى تحت ذراعه ، يمشى ينساب الكلام منه … يخدرنى :
- ماذا ينقصنا لنكمله بالزواج ؟! الأولاد … أنت تكفنيي … الجنـ ……
أسكته معتذرة لضرورة إنصرافى ، عدت أجر خيبة أملى ، مع أول عاصفة من أمى ، وافقت على أول رجل طرق بابى … حملنى لقفص الزوجية ، رصع يدى بأسورة ذات قفل ماسى ، ضحكت أمى :
- حلمك تحقق … مبروك . حاولت نسيان الماضى لم أسع لسماع شئ عنه ، تجنبت أماكن لقائنا تركت عملى وبلدى ، تفرغت لزوجى ، سافرت معه حاولت أن أفهم كلامه ، يختلف عما يجرى فى دمى من معتقدات … لكنى أبدا لم أئتلف مع وجودى فـى قفص الحريم ، كنت أختنق … يعذبنى حنان زوجى ، تقتلنى ابتساماته ، تسامحه ، إغداقه علىَّ … أزداد ابتعادا وإعياء حملنى لأشهر الأطباء … لا تفسير سألنى فى حنان أبوى مشفق علىَّ :
- هل تريدين أطفالا ؟ تستطيعين ذلك لو خضعت لبعض العلاج لقد سألت وعرفت أنك بحاجة لتنشيط فقط … عفوا حبيبتى فى مثل سنك فرصتك ضعيفة لكن ليست معدومة .
صرخت بوجهه … أريد … !! واعتقل لسانى ثقل لم أستطع النطق حاولت ، فشلت ، أنه ثقيل ممسك بقيود من حديد فى مؤخرته ، صدرى يختنق … يضمنى فراشى … تلفظنى ضلوعى … سهام الشك فى عيون زوجى تعصف بما يحيطنى .
اقترحت أمى أن أسافر معها حتى تتحسن صحتى … رحبت بى حبات رمال الاسكندرية … تراقص الموج اللعوب لعودتى … نادتنى كل الأماكن … كى أبحث عنه ، عادت أفكاره تنبض من جديد ، خفقات القلب تعزف كلماته … سألت كل الشواطئ عنه ، في لحظة مجنونة كحبى ذهبت إليه فى عنوانه الذى أذكره . حذرنى من الذهاب إلى هناك فوالده رجل رجعى … عنيف … لا يهم نظرة من عينى الملهوفة ستجعله يرفق بى ، طرقت الباب ، انتظرت يا لطول الانتظار … مر عمر بكامله أنتظر أن يفتح هذا الباب ، جاء صوت ناعم يهمس .
- نعم من بالباب ؟.
- أ أ أنا .
فتحت سيدة تبدو ريفية رقيقة الملامح ، كشفت وجهها بعد ما تأكد لها أنى امرأة … لعلها أخته … نعم هى تقاربه فى الشكل .
- عمرو موجود ، أنت أخته تشبهينه كثيرا … أأنا نهى زميلته فى العمل وكنا …
- تفضلى … هو ليس موجودا .
جلست حائرة … وضعت غطاء رأسها بجانبها لها شعر أسود كستائر ليل … ذكرنى بطلب عمر أن أطلق لشعرى الحرية ، أتركه طويلا هائما ، عابثا فوق ظهرى … قطع تفكيرى صوت طفل ينادى … ماما … وهو يلتصق بها ، همست أمه :
- سلم على "طنط"
- يشبه "عمرو" … لا بل هو … كم عمرك ؟
- خمس سنوات .
- لماذا لم يخبرنى عمرو عنك قبل الآن ، أنت جميل جدا … ممكن أخذ قبله ؟
- حضرتك تعرفى عمرو منذ متى ؟! نحن أبناء عمومة وتزوجته بعد تخرجه ، أنجبت له محمود … ومنى … لكننا لا نعرف أصدقاءه … له طبع خاص …لا يحب اختلاطنا كثيرا بالناس … و …نزلت كلماتها كصاعقة هشمت عظامى … لم أعد أسمع … سحابة بيضاء حجبتهم عنى … لم أنتبه إلا وهو يصطدم بي داخلا من باب بيته … نادى بصوت مندهش :
- نهى … ماذا … ماذا جاء … ؟ !!
حملقت فيه ، استدرت ، لم أسقط من طولى ، لكن سؤالا سقط على رأسى كجبل … كيف عشقت هذا الرجل ؟؟؟