جناحــان


جناحــان

تك .. تك ..قطار السادسة اعتادت أن تستقله مع زوجها كل خميس لينقلها إلى منزل آخر لالون لجدرانه يجتمع فيه أناس كثيرون للثرثرة التى  تتصدع معها أحلامها ، تجلس دوما بجوار النافذة ، ويجلس بجانبها هذا الثرثار ، ماأن يجلس حتى يبدأ فى الكلام .. أى كلام يتخلله ضحك ويوجه الحديث إليها وإلى من يبتليه الحظ ويجاورهما .. فى بادئ الأمر كانت تهرب من فجاجته إلى وجوه الناس تقرؤها .. تمل .. تهرب عبر النافذة إلى الخضرة تواصل قراءة ألوانها ، اليوم بدا الأمر مختلف جلست تستنشق الهواء خارج النافذة يحادثها زوجها تهم بالنظر إليه عيناها تقع على وجه أسمر ، بملامح دقيقة وأكثر ما جعلها تهوى تحت عيدان البرسيم الخضراء تلك النظرة الصارمة الحانية من عينيه ، تمعن النظر إليه ، ينظر فى ورقة بيديه يخط مزيدا من الخطوط لم تستطع أن تلمح ما يفعل لعله معجب بالألوان الخضراء والأشجار بطول الطريق .. (الزوج مازال يثرثر عن حوادث القطارات تختلط الثرثرة بالضحك ، لايبالى باتساع حدقتى الطفل والرعب المحفور فى عينيه ممسكا بملابس أمه .. هل يقع حادث للقطار ياأمى ؟
ربتت على كتف صغيرها .. إنها مجرد قصص !!
الزوج لايعلق ، ينتقل إلى حكاية أخرى .. أنتبه لشرود زوجته تحدث إليها لم تنظر إليه .. كانت تختلس النظر للرجل الأسمر لاترى شيئا ، فالورقة التى فى يديه تحجب نصف وجهه ، تنظر عابرة للسيدة والطفل بجوار الرجل الأسمر ، تراها تبتسم لها ابتسامة بلا معنى ، لم تفكر فى معناها ، تدير وجهها ، زوجها يواصل الثرثرة مع السيدة والطفل ..
زوجتى تحب الموسيقى والغناء ، إنها عازفة بيانو ، تعشق الطبيعة ، إنها جميلة صامتة، تزوجنا منذ خمس سنوات .. شروق .. أليس كذلك إنك لاتحبين الكلام .. شروق ..
التفتت إليه بامتعاض .. نعم ..؟ هل تنادى ؟
- هل تريدين قدحا من القهوة ؟
- نعم ...
عاودت النظر للرجل الأسمر ، ينظر إليها من خلف الورقة ، عيناه عسليتان واسعتان عميقتان ، أحمرت وجنتاها ، خفضت رأسها قليلا.. عاودت النظر إلى المرأة والطفل بجوارها .. تنظر المرأة لها مبتسمة وكأنها تشجعها على النظر إليه مرة أخرى وتقول : أعلم شعور تلك النظرة على قلب المرأة ، عادت تنظر خارج النافذة تتطلع إلى الأعمدة والأشجار تمر بجوارها بارقة تصفعها كى تفيق ، أو تنفض هذا الهم الجاثم فوق صدرها منذ تزوجت من هذا الثرثار ، حسدتها صديقاتها ، وتذكرت وفاء وهى تضحك قائلة : (يابختك).. زوجك يتحدث معك كثيرا.. زوجى صديق للصمت.. والحب يأتى لاحقا أو لايأتى.. أبتسمت شروق تذكرت أنه أبدا لم يكن يحادثها هى، دائما يتحدث بصوت عال ليسمع كل المحيطين بهما .. دائما كانت تأمل فى حديث هامس .. يخصها هى .. لم يلحظ يوما أنها تمل ألا تكون لها خصوصية فى حياتها .. عليها أن تذهب معه فى رحلتهما الأسبوعية لجدران لاتختلف كثيرا عن جدران منزلها ، تجلس مع عائلته تتحدث فى كل شىء بصوت عال ، تمنت لو يكسر تلك القاعدة يوما ويرحل بها بعيدا ، لو يغار عليها ، ثقته تكبلها ، لو يذكرها !! بم يذكرها ؟!
ليس هناك لحظات شاعرية فى هذا الزواج ، كم تمنت أن يقتحم الحب حياتها معه لتعيش من أجله ، حتى أمنية الأمومة لعلها الزوجة الوحيدة التى تمنت ألا تكون أما حتى يتفجر ينبوع الحب بداخلها ، فتروى منه كل من تحب ، لكنها جدباء المشاعر والعاطفة ، تمثال يتعشقه ذاك الأبله ..
لم يستطع أن يفجر فيها عينا واحدة لترويه وتٌروى ..
سأل الطفل أمه : هل هذه السيدة خرساء ياأمى ؟..
نهرت الأم طفلها واعتذرت لشروق عن فضول الأطفال ..فلم تجب وبادلتها بابتسامة باهتة ..
الرجل الأسمر ينظر إليها .. يحاورها بعينيه .. نظرت للورقة فى يديه .. صورتها .. وجهها .. جسدها بجناحين.. اتسعت حدقتا عينيها .. كم تمنت أن يكون لها جناحان ، شعرت بالدفء يسرى .. أطالت النظر للرجل .. أفاقت على صوت السيدة المراقبة للحظات البوح الصامت بجلال وهيبة محدثة طفلها :
عـلى الإنسان أن يصحح مساره .. أن يغير القطار إذا تكشف له خطؤة ، همهم الطفل : يعنى إيه ياأمى ؟
ضمته الأم لصدرها مبتسمة بمكر طيب لشروق .. فى تلك اللحظـة قام الرجل الأسمر يحمل معطفه .. القطار يقترب من محطته توقفت دقات قلبها .. وعجلات القطار ، انتفضت واقفة حملت حقيبتها الصغيرة ونظرت للطفل مبتسمة : أنا لست خرساء تعلمت الآن متى يكون الكلام، أتمنى أن ألقاكم ثانية ..
نزلت من القطار خلف ذلك الأسمر ، إنه ينتظرها على الرصيف وسط الناس ، عاد الزوج يحمل قدحى القهوة .. تعجب لعدم وجود شروق وسأل السيدة :
هل رأيتها ؟!
لم تنطق على حين أشار الطفل للخارج وقال : نزلت ..
هرول الزوج خلفها وهى تبتعد .. لحق بها لاهثا .. : لماذا ترحلين وحدك ؟
وحيدة .. نطقت بها .. نظرت بجوارها فى تعجب .. لم تجد فارسها الأسمر .. التفتت فى دهشة .. ابتسمت .. أشاحت بوجهها .. أكملت طريقها وحيدة .. فقد نبت لها جناحان ...

* * *
نشرت بجريدة الزمان أغسطس 2...