إختبــــاء


إختبــــاء

خرج من الخان ، نظر إلى يساره ، دب على الأرض بقدمه الطرية ، ركض ، تعثر ، نادى بصوت متقطع : ما .. ما ، تهدج صوته ، فرش ذراعيه على الأرض واضعا خده الناصع الحريرى يتلمسها .. هرولت، حملته بين ذراعى ، أشار بأصبع دقيق : ماما.. إلتفت ، تجمدت نظرتى على السيدة المقبلة تشبه أمه إلى حد كبير .. ضممته لصدرى، دخلت الخان ، أرحته أمامى على مقعد وجلست أنظر لبراءته وهو يعبث بنظارتى .. الدموع لم تجف على وجنتيه الورديتين.. يشبهها .. ناصع البياض مشرب باللون الوردى .. ذوقها عال فى إختيار ألوان ملابسه ، لماذا أذكرها الآن تلك الفاجرة الملعونة ؟ !
ماذا أخذت من جمالها غير الخزى والهوان ؟! سأمزق مشاعرى سأنزع قلبى إن فكر فيها ، لن أحتفظ بشىء يذكرنى بها سأحرق كل شىء – بابا .. بابا ..
اخترق الصوت قلبى هبطت نظرتى فوق الوجه البرىء ، تشقلب فى حركة بهلوانية ونزل على الأرض .. عاود الكرة نحو باب الخان ، تركته ألقيت جسدى الخائر فوق مقعد ، أحنيت رأسى ، تلمست ساقى.. من أحرق ؟ نظرت إليه قد أتحمل نزع قلبى حيا ولا أتحمل وخز الإبرة على جلده الناعم ..
يدب بخطواته الهامسة فوق قلبى فيدق وأحيا .. توسدت الهموم .. أختبأت فى بؤرة أحزانى .. تركتنا الفاسقة وانصاعت لما تسميه ‘‘العشق‘‘ همست فى رقة الملائكة :
                 -لنكن أصدقاء ، فوجود طفل بيننا لايعنى أن نستمر فى مهزلة رسمية أسمها الزواج ، سأترك الشقة ، الـ ....
                 -ماذا ؟! لم ؟! كيف ؟! .. خلافاتنا مجرد عراك يحدث بين معظم الأزواج !!! .
                 -نحن مختلفان .. تغيرت مشاعرى ، أختار حريتى ..
لن أخدعك .. الحياة معك أطول من حقيقتها ..
                 -طارق .. ابننا البرىء ... لاذنب له ...
                 -إن أردت الاحتفاظ به فليكن ...
                 -أنت .. أنت .. طاااااااالق !! ..
دموعها تنحدر ، ومن بين اختناق صوتها تسأل كأنها الضحية :
                 -هل أحتفظ بالطفل حتى يكبر قليلا !! أم تستطيع رعايته ؟
                 -أخرجى !!
ملابسها .. أحرقها .. ألقى بكل أغراضها خارج المنزل ، أطهر حياتى من ذكراها ، من ضحكاتها الساحرة كطفلة خدعتنى براءتها ، سأنـ...‘‘طارق .. طارق‘‘ .. هرولت خارج الخان نظرت لطفلى، يذهب يسار المحل ثم يلتفت ويعود ، ثم يذهب لليمين ويعود .. جلست أنتظره ، عاد ألقى بكفيه الغضتين على عتبة الباب ، رفع ساقه الطرية، صعد يريد أن يلاعبنى يشعر بالوحدة .. مددت يدى .. أخذها ، يثنى أصابعى ضاحكا : بيضه .. بيضه ، ثم يقوم يزغزغ بطنه ويضحك ، يلقى خده فوق ركبتى يستدير فجأة يعضنى ، أصرخ ، يملأ الخان ضحكاً وصراخا ، يجرى يختبىء خلف المكتب ، لاتحملنى ساقى للعب معه ينادى :
با... با ...
أنهض متثاقلا ، أبحث عنه ، أمسك به ، يركض ..
عبثه يعيدنى الآن لأيامى الخضراء ، حرمت من أبى .. أمى سيدة شريفة لم تتزوج بعد وفاة والدى ، كانت صغيرة السن .. فضلتنا على سعادتها .. والدى يعشق النساء .. كانت أمى عاقلة يوم مات بكت كأنه أخلص الرجال ، لِمَ .. لمْ تخلص ؟!
أخلصت لها ، كانت تملأ عينى .. أغدقت عليها من مالى ودمى ، ورثت الخان عن والدى ، رزقه معقول .. ليس المال ماجعلها تتركنى.. الحب .. لا .. العُهر.. لم تثنيها أمومتها عن الخطأ ..
أفقت من همومى بحثت عن الولد .. ليس فى الخان .. خرجت .. نظراتى تلتهم الأفق كله .. طارق ... طارق ... ، جريت ، جررت خوفى ورائى ، أحترق رعباً ، تحلق الناس ، بحثوا ، ذهب بعضهم لقسم الشرطة .. جرتنى قدماى للخان جلست أنكفىء على مقعد ورأس فوق الطاولة – بكيت .. تمنيت حرق كل ما يذكرنى بأمه ، عشقت آخر ولكنها لم تستمر فى خديعتى ، فضلت أن تنفصل وتعيش .. إنه الصدق .. الصدق المر ...
ضاع الولد ، كاد ينجح فى اختراق عالمى الحزين والفرار بى منه ، تذكرت صدر أمى تمنيت لو أختبىء فى صدرها .. لو تشد أذنى تدغدغنى بلمساتها فوق ظهرى ..
أهذه يد ؟! .. يدٌ طرية تتلمس ركبتى .. نهضت .. ركعت تحت المنضدة .. طارق .. طارق .. نائم تحتها !! ضممته لصدرى .. رفع يديه ، جفونه متثاقلة :
-     با ... با ...
ألقى برأسه فوق كتفى خرجت أزف خبر .. عودتى ...