ســـيدة


ســـيدة

اصطدمت عيناى بها وهى تقف أمام مسرح العرائس فى ثياب تجسد أناقتها ، هذا وجه لا ينسى .. وجه " سيده " . استيقظنا يوماً فوجدناها تطوف بحينا بحثاً عن كسرة خبز . لا ندرى من أين جاءت !
جسدها غطاه ( الوسخ ) وبقايا من صناديق القمامة التى تعبث فيها .. سميناها سيده فلا اسم ولا عنوان نعرفها به .
الناس تناقلت قصتها بقليل من المعرفة وكثير من التخمينات ، قالوا  :
ـ متخلفة عقلياً .
ـ بل هى مصابة فى حادث أفقدها الذاكرة .
ـ سيده تعرضت لظلم شديد أفقدها عقلها ..
وهكذا كنت أراها فهى تتلفظ ببعض الأسماء وتصمت وتغرورق عينها ثم تضحك عالية، تهرب من ضحكتها ودموعها وهى تجرى خلف العصافير فى السماء تناديها .
وقعت فريسة للتفكير فيها ليالى طويلة ، والناس صنفان ، صنف يعطف عليها بعض السيدات الطيبات يغسلنها مما علق بها من تراب ويطعمنها ويوفرن لها مكاناً للمبيت تحت بئر سلم ، وصنف يتسلى بها .. تجلس سيده على الأرض ، تنادى ساكنى العمارات ، وتطلب شاياً  مع " كيك " تضع ساقاً فوق أخرى وتحدث نفسها فى كبرياء ، تنادى على صغار وهميين تطعمهم .. فجأة تصرخ ترتمى على الأرض تضمهم لصدرها.
تختفي شهوراً ، عادت وجدناها منتفخة البطن .. لم نعجب لما رأينا وسألناها .. لم تدرك السؤال ولا الإجابة ..
اقترح جارنا الطيب أن تودع " سيدة " مصحة عقلية هى وجنينها اختلطت دموعها بضحكها وبكاء النساء الطيبات ، وهى تدفع إلى المصحة .. تصرخ ..
ـ اتركنى .. أخذت كل شئ حتى الأولاد لا .. لا ..
تضرب بيديها فى الهواء كأنها تدافع عن شئ تراه ، نسيناها .. صارت حدوتة ، تحولت لخيال عند الصغار ، وها هى ذى الآن أمامى .. بين الإقبال والتردد ، اقتربت منها ، ارتبكت السيدة ، جذبت الطفل ، ابتعدت عنى وهى تنظر خلفها ، أردت اللحاق بها ، وجدت من يجذب ذراعى من الخلف .
ـ ماذا تريدين ؟!
  ذعرت فى بادئ الأمر .. أجبته :
ـ هى شبيهة بسيدة أعرفها إنها .....
وعقد الصمت لسانى .. انه جارنا الطيب ، الذى أشار منذ سنوات أن توضع سيدة فى مصحة ، واختفى بعدها بعام :
ـ ألا تعرفنى أنا .... !!
ـ نعم أعرفك ماذا تريدين منها ؟
ـ الاطمئنان عليها .. إن كانت هى سيده .
ـ أسمها ناهد .. كانت مدرسة لغة فرنسية ، تزوجتها ونعيش فى الاسكندرية .
ـ كيف ؟
ـ هل يهمك أمرها ؟
ـ لا إنه الفضول و قضمت كلمتى حتى لا أقسو عليه بها .
ـ بعد أن أدخلتها المستشفى مشفقاً كنت أذهب كل شهر لزيارتها .
حتى يوم مخاضها ، انجبت ناهد ولداً جميلاً كانت تبكى وتصرخ ، اتركوهم لى وخارت قواها وغابت عن الوعى بعد الإفاقة وضعوا الطفل على صدرها وكأنها قامت امرأة جديدة حملته بعناية ألقمته ثديها ربتت فوق شعره بحنان ضمته سالت دموعها تغطى وجهها " الحمد لله " .. لقد عدت لى يا حبيبى .. لم نتحدث إليها ولم يستطيع أحد الاقتراب منها لأخذ الوليد .
ـ وهل كانت ... ؟
ـ أعلم ما تريدين معرفته ، الطبيب قال لا خطر فهي مريضة هادئة ..
كانت تتحدث بعد ذلك بمنتهى العقل والاتزان .
عرفت حكايتها واسمها .. كانت زوجة لرجل خليجى ثرى أغدق عليها وعلى ذويها سافرت معه ، اعترضت لكونها الزوجة الرابعة .. دون جدوى أصبحت أماً لطفلين عاشت من أجلهما .. لم تكن معاملة زوجها عادلة ، فكان يشق على نفسها أن تعامل كمواطن درجة ثانية فى منزلها ، أرادت العودة لبلدها ، اعترض .. تعاطف معها "كمال" مدير أعمال زوجها ، شعر الزوج بذلك .. دعاها لقضاء الشتاء بالقاهرة ، عادت معه ، انتظرته يأتيها مع طفليها .. يوماً .. أسبوعاً سنين ، لم تستطع السفر كان قد طلقها وسحب تأشيرة سفرها .. صرخت لجأت لكل الأماكن سفارة .. شرطة .. قضاء، خرجت تهيم بالشوارع و ... و ...
وانصرف نظري إليها وهى تحضن طفلها ، واستدارت ناحية باب المسرح .. تدخله الآن سيدة راقية جميلة عادت من رحلة مضنية شاقة ..

****