حكـم الشـايب
تعانقت الضحكات مع الهتافات المدوية :
ترقص ...
تغنى ...
تشترى من البقال بقرش صاغ حلاوة ..
عندها لمعت الفكرة برأس محسن ..
لا .. بل تطرق باب الجيران وتزعم أنها تطلب المبيت عندهم .
نظرت إليهم ، انداحت الابتسامة تكسو ملامحها الرقيقة الوضاءة
هل تعرفون ، كم الساعة ؟! العاشرة مساء .. أنتم مجانين ..
علت الأصوات هيا ... هيا ...
خرجت ، طرقت الباب المقابل ، فُتح الباب عن رجل وسيم تخطى العقد الرابع ، ارتبكت مندهشة !!
عمر ... !!
فى ذهول تنحى الرجل ، فدخلت مترددة ، تحشرج صوتها :
هل والدتك موجودة ؟
لا ...
انتفضت مستأذنة فى الإنصراف ، رمقها بنظرة تعجب واستنكار شديد :
ممكن أفهم أى حاجة ؟
أنا آسفة أزعجتك أصل الحكا......
طرقُ على الباب وضحكاتُ ونداء .. ‘‘ ميرام ..ميرام‘‘ كفى تعالى فتح الباب .. تحول وجهه لعلامة استفهام كبرى أمام لهوهم ، أعاد النظر لوجه ميرام :
ماذا يحدث ؟
بنلعب ‘‘ الشايب ‘‘ وكان حكمهم على ، أن أطلب المبيت عندكم .. لم أعرف بعودتك ، ظننت الوالدة بمفردها ، متى ...
انتزع من وجهه ابتسامة وهو يتفرس ملامحها الدقيقة :
جميل أن الوالدة ليست موجودة وإلا وقعت أزمة .. فهى لاتعترف بالكوتشينة ولا ألعابها ، حاولت أن أشرح لها أن الكوتشينة ليست كلها قماراً ، والشايب مثلا لعبة تقوم على المرح لما فيها من أحكام ظريفة ومواقف مضحكة .. لم تقتنع ..
هل تنضم إلينا فأنت وحيد الليلة ..
رحب الجميع به فقد تقبل هذا المزاح الثقيل ..
هتف أحدهم :
استراحة وبعدها نستأنف اللعب ...
كان عمر يشعل سيجارته ، ويتتبع بعينيه دخانها وهو يصعد ويهبط فوق مساحات الضوء الأبيض فى عينى جارته الحسناء .. امتلأ جسدها البض ، وقتما تزوجت كانت أصغر فتاة فى العمارة ، فاتنة ، شدته من أفكاره وهو سارح :
تشرب شاى ؟
تناول منها القدح الساخن متسائلا :
كيف حال الأسرة ؟
لم يبق غير أمى ، سافرت لقضاء عمرة المولد النبوى .. تزوجت معها كما ترى .. لم أكن لأتركها بمفردها بعد زواج إخوتى .. وأنت ؟
لم أتزوج .. الحياة خارج مصر تسرق العمر ، عدت منذ يومين ، الوالدة تجلس عند أختى التى أنجبت أمس ولداً جميلا ..
مبروك ...
هل لديك أطفال ؟
أطرقت :
لا ... هيا ننضم للعبة ، هل مازلت تذكرها أم الألعاب الأوربية أنستك؟ سنفرق الورق بالتساوى ، ثم تخرج كل ورقتين متشابهتين وتضعهما فوق الطاولة ، ثم نسحب من بعض حتى يبقى الشايب مع أحدنا ..
ضحكت ابتهال :
- طول عمرى أسأل لماذا الشايب ، لو كان ولداً ، كنت احتفظت به على طول !!
همس محسن :
- ليتنى الولد ولو فى الكوتشينة !!
لكزها زوجها سعد فى كتفها وهو ينظر بغيظ تجاه محسن :
- أحتشمى .. وأنا أطلع إيه ...
- بين الأثنين .. لاولد .. ولاشايب ...
استأنفوا اللعبة .. صاح الجميع :
الشايب مع ابتهال .. والملك محسن ...
صاحت :
- ترفقوا بى ...
ضحك محسن :
تنزل تشترى لى قطعة بطيخ ..
لا .. الساعة اقتربت من الثانية عشرة ليس معقولا ..
محسن مقاطعا :
لاتراجع فى الأحكام وإلا لن يلعب الممتنع ثانية معنا ، هيا لااعتراض على حكمى التالى ، تحضرين ماءً ساخناً لأضع فيه قدمى ، وتقفين مثل الجوارى فوق رأسى .
ياسخيف لا .. لن أفعل ...
مجبرة نفذت ما طٌلب منها .. استأنفوا اللعبة والأحكام تتوالى ، وفى كل مرة يصيح محسن :
لاتراجع ...
هذه المرة صاحت ابتهال :
مرة ثانية الشايب من حظ ميرام ، وسعد هو الملك
ارتكز سعد على مرفقيه قائلا :
ساندوتش مربة سفرجل فى خبز طازج من الفرن حالاً
ماذا ؟! لاياسعد يجب أن تطلب شيئاً منطقياً
همس عمر فى أذن سعد فهتف ضاحكا :
إذاً ترقصين لى وحدى ..
هتف محسن ساخطاً :
لاداعى لمزاح ثقيل ، فلترقص أمامنا جميعاً
لا ... أمامى وحدى ..
على الطلاق ..لن تفعل ..
صرخت ميرام :
محسن هل جننت ؟!
انتفخ سعد بإصرار :
على الطلاق سوف تفعل .. أنا الملك ..
ارتخى عمر فوق مقعده .. من حقك ، لقد نفذ حكمه فى زوجتك علا صوت ابتهال :
ماذا جرى لكم .. هل اسكركم كوب الشاى ؟!
تراجعت ميرام ، التصقت بعمود ينتصف الحجرة الواسعة ، نظرت تجاه عمر وأحمرت وجنتاها ، شعر بحبها يعاود الاستقرار بين أضلعه ، كحمامة عادت من رحلة فى السماء الواسعة ، لكنها تعرف عشها ، تحول الضحك لأصرار على مبدأ أن الأحكام لاترد، صار الحوار لغطاً ، كانت عين ميرام تبدو كأنها تستنجد بعمر...
ومضت الفكرة برأسه .. هتف دون شعور منه :
ما رأيكم لو نتحاور بهدوء .. إنها لعبة ؟
صمت الجميع ينتظرون .. تحدث عمر بهدوء :
سعد الملك وأقسم ألا يتنازل ، ومحسن أقسم بالطلاق ،ألا ترقص، وأنت ياميرام ما رأيك فأنت المحكوم عليك ؟ أتسعت عينا ميرام وهى تنظر لمحسن ، كان داخلها يتصدع ، كيف وضع زوجها حياتها معه رهنا للعبة .. القت عينيها وحوارها الصامت بين يدى عمر ، وجم الجميع بينما تحدث عمر بهدوء الآمر :
يحتفظ سعد بحقه فى الحكم ، ونقوم بلعب دوراً آخر ، وإذا وقع الشايب على محسن أو ميرام فلا مفر من الرقص لسعد بمفرده ، أو .... الطلاق .
صرخت ميرام :
لاتنتهى اللعبة وكفى .
نظر عمر لمحسن .. هل تشك فى قدراتك على الكسب ؟
هتف محسن :
لا .. رضيت بالحكم لثقتى فى الفوز ، وعليك يا ميرام بالحذر فى اللعب، أما أنا فلن أخسر .. لن أخسر ..
وزع الورق ، بدأ الضوء شاحباً ، القلوب متوحسة ، العقول مترنحة من الخوف .. نظرات ميرام تتصارع مع أوراق الكوتشينة ، تغير لون البشرة الوردى للون الثلجى ، مرت الدقائق وئيدة ، كان كل منهم يحمل رأس شايب فوق كتفيه ، مرتبكون ، خائفون ، أوراقهم تكاد تكون مكشوفة لرأس واحد انداحت معالم الرضا فوق وجهه فقد كان عمر الملك، رغم أنه لم يفوز ولامرة بهذا اللقب منذ بدء اللعبة ، كان يلعب معهم لعبته معتمدا على ارتباك اللحظة ، تململت ابتهال :
هذا الدور طويل وبطىء ..
كان الكل حذراً ، العقول تمتد لسحب الورق قبل الأيادى وهى لاتعى غير الرعب ، بعد مرور الوقت خرجت ابتهال من اللعبة ، تلتها ميرام التى تنفست قليلا من الراحة ، خاصة عند خروج سعد ، هذب محسن شاربه فرحا ، لم يبق غير محسن وعمر بتبادلان الورق ، فى لحظة طويلة سلم عمر آخر ورقة لمحسن ، تجمدت النظرات فوق ورقة الكوتشينة ، كان الشايب يبتسم ، يسخر منهم ، تعلقت عينا ميرام بعمر :
_عليك بتنفيذ الحكم يا ميرام ..
صاح محسن :
_ لا .. أقسمت بالطلاق ..
ترنحت ميرام ، سقطت فوق المقعد ..
_ لن أرقص لأحد ..
بحلق الجميع فى ميرام .. توسلت ابتهال لزوجها أن يتنازل ، فالأمر لايعدو لعبة :
كيف يتطور بنا الحال حتى نخرب بيتاً ؟
قال عمر :
- لامجال للتراجع ، محسن من فعل هذا .. عليه أن يتحمل والامر أصبح به طلاقان ، أنسيت .. سعد أقسم هو الآخر بالطلاق ..
لطمت ابتهال وجهها وكأنها لم تسمع قسم زوجها منذ قليل فجاء مفاجأة لها :
على إحدانا أن تطلق الليلة .. ليلة سوداء ، منك لله ياسعد ، ماذا أقول للعيال ، أبوكم طلقنى فى لعبة !!
قامت ميرام متكئة على كتف عمر ، صلبت طولها ، اتجهت نحو الشرفة تتنفس .. وتنفرد بنفسها ...
هتفت ابتهال كمن وجدت الحل :
نسأل شيخا :
عمر ساخراً :
ماذا تقولين له ؟... زوجى ....
صرخت ميرام :
كفى ... سأرقص .
قفزت ابتهال ناحيتها :
تضحين لأجلى أنا وأولادى ليس حلاً
سأرقص ... لعمر وحده ..
صاح محسن أقسمت ألا ... ثم الحكم لم يكن لعمر ، بل لسعد
عمر هو الملك وسأرقص له .. ألم تفهم بعد يامحسن ، لم يكن حكم الشايب .. إنه حكم الطلاق .. لم يكن حكمك ياسعد ...
بل حكم عمر ، اتجهت ، أدارت الموسيقى ، جذبت عمر من يديه أجلسته ، نظرت لهم مخاطبة :
لتغمضوا عيونكم ، أو تخرجوا .. فاز الشايب بالرقصة والبنت...
* * *