البنـــت


البنـــت

فى قصعة تكتل فيها الجمر ، وضعت حبات الذرة ، تمروح فوقها وهى تغنى – لاجتذاب الأطفال ، أطلت جدتى من شرفتها ، حدقت فيها ، هرولت إلى خالى قالت :
                 -أعطنى خمسة قروش أشترى ‘‘ كوز ذرة ‘‘
                 -ياأمى ليس هناك ذرة بخمسة قروش ، خذى خمسين قرشا ، هبطت درجات السلم ، جذبت البوابة الحديدية ، عصت عليها لكنها كانت أكثر عناداً ، دلفت حيث بائعة الذرة ، نقدتها المبلغ ، حملت كوز الذرة وهى تكاد تتقافز من السعادة ، امتطت السلم دخلت على خالى ، حدجها بنظرة غريبة :
                 -لمن الذرة ياماما ، ليس لديك أسنان !!
                 -للـ .. للــ   .. للبنت !
التفتت جدتى لم تجد أحداً ، القت بالذرة ، دخلت إلى الحمام توضأت وعادت تصلى جالسة  قد أتعبها هبوط السلم وصعوده ، وضعت قبضتها تحت ذقنها وعادت إلى سرحانها ...
اقترب منها خالى ، ربت فوق كتفها ..
                 -أى بنت ؟
                 -التى كانت هنا ..
جاءنا خالى قلقا على جدتى ، ترى أشخاصاً غير موجودين ..
أقمت لدى جدتى فترة ، كانت سعيدة تحدثنى عن الماضى وأخوالى الذين رحلوا عن دنياها ، وخير جدى الكثير ، عزبتهم ، أراضيهم ، الثورة والملك ، كيف كان أهلوهم يخافون عليهم من عساكر الانجليز فكان الخروج من المنازل مستحيلا ...
فيجلبون الخارج للداخل : سينما ، مصورين ، مطربين ، ممثلين...
حكت كيف أقام لها أبوها فرحاً سبع ليال متصلة ، فى كل يوم طقوس جميلة ، واليوم السابع ، يوم الزفاف ، أرتدت سبعة فساتين آخرها اللون الأبيض والطرحة ، التٌل التى شغلتها بنفسها وطرزتها بفصوص قليلة من الماس الحر .. صاغته بعد ذلك أسورة .. قفزت برشاقة وخفة بنت السادسة عشرة فتحت صندوقها المخبأ بعناية فى دولابها ، وأخرجتها ، نظرت إليها ..
                 -احترت لمن أهديها ، أنجبت خمس بنات وأربعة صبيان ، بعد موتى يأخذونها .. لا ... خذيها أنت يوم فرحك ..
                 -ولكنى تزوجت ياجدتى ...
                 -هه .. كيف حال زوجك .. يريدون حبسى ، يريدون موتى.. خوى المنزل إلا من خالك ، لماذا لايتزوج ؟ كى أطمئن عليه قبل ....
                 -إن شاء الله تسعدى بأولاده ..
أردت الخروج من ذكرياتها الحزينة ، خوفها من ذكر الموت ...
                 -أشترى لك أيس كريم ياجدة ؟
                 -كان نفسى آكل ذرة خالك لم يرض ..
تغضن وجهها ، أشاحت بيديها ..
                 -قال لى : ليس لديك أسنان ..
نفسى فى الذرة ، والخبز المقدد مع قطعة جبن وخياره .. أريد قصبا أمصه ..
أوجعتنى بسمة جدتى وهى تتمنى أشياء بسيطة .. قمت متحفزة للزمن الذى يسلبنا أشياءنا الصغيرة ، فتحت دولابها ، أخرجت لها فستاناً أسود، فما زالت تتشح بالسواد على من رحلوا..
عدت إليها وجدتها تفتح صندوقاً ظننته لسنوات ديكورا بالمنزل لم يجرؤ أحد على فتحه .. أخرجت منه طربوشا وعصاه ...
هتفت والفرحة تنداح على ملامح وجهها ، تخضبه بلون الحياة :
                 -طربوش جدك .. ابتسمت لها ..
                 -ياجدتى .. العتة فتكت بما فى الصندوق ..
رمقتنى ، أدخلتهما وأغلقت الصندوق ، دفست المفتاح فى صدرها
                 -زمان كان الناس فيها خير ، تود بعضها ، تتحدث كثيرا ...
الآن لم يعد لديكم رغبة فى الكلام .. حولكم أشياء كثيرة تتحدث .. ‘‘المخروب التلفزيون‘‘ دش ، سينما فى كل متر ...
راح الود والكلام والسؤال .. تركت الصندوق همست لها ، هيا نخرج ، صاحت ..
                 -بجد أشوف الشارع والناس ، أنت ابنتى الحبيبة الغالية .. والبيت .. ممكن يأتى حرامى .. لا .. خلاص ، خلينى ..
                 -ياجدتى سنغلق البوابة لاتخافى ، لن نتأخر ..
خرجنا ، طوفنا الشوارع ، كانت الدهشة ترسم الكثير من علامات الاستفهام لأسئلة وئدت داخلها، القلق يعتصر نظرتها وبسمة معلقة كأنها التقطت لها فى لحظة وجمدت على شفاة ضمرت وجذبتها التجاعيد للاستقرار هكذا .. همست : اريد الرجوع ...
عدنا للمنزل .. حملت بعض أمانى الجدة فى جعبتى ، قمت بسلق الذرة ووضعت فوقها القليل من الزبد وقدمته لها فتمكنت من أكله ، قدمت لها القصب مقطعا لشرائح رقيقة كوريقات الشجر ، عضعضت عليه ‘‘بالضراضير‘‘ كطفلة فى مرحلة التسنين ، فرغت ، ضمتنى لصدرها أغتسلت وتوضأت وهمت تصلى سألتها :
                 -من هى البنت التى طالبتك بالذرة ؟
                 -من تؤنس وحدتى وتسمع حكاياتى ، وتذكرنى بمن رحلوا ...