سلــمى ..
بوجه تشرب سمرة ، وصفين من الرموش كسوسنات ناعسة ، وشعر تهدل بقصه على جبين عريض وقصع الباقى منه فى ذيل حصان صغير وذقن دقيق يتناغم همسا مع الشفاة التى رُسمت معالمها كقبلة ملاك حالم وضع هذا القد الطرى فى لباس بحر برتقالى .. كأنها شمس ترسل وهجها ، أخذتنى وهى تجلس فوق الرمال ، تجمعها بجاروف أحمر ، تسقيها بالرشاش ، تحفر وتحفر تجمع أكبر قدر من الرمال ، تضيف إليه الماء بغزارة فينساب عائدا إلى البحر، تزفر فى ضيق ، تضرب الأرض، تتطاير حبات الرمل لعينيها فى حركة سريعة تدعك عينيها بيدين خٌضبتا بالرمال ، تصرخ غاضبة تلقى بالجاروف والدلو والشوكة فى المياه .. هرولت الأم إلى الصغيرة نظفت وجهها بالماء ، أجلستها فوق المقعد ، نفحتها الطفلة بسمة من جعبة مكرها وهى تمد اليد لتلتهم قطعة البسكويت وتدلف من بين يدى أمها فى حركة التوائية.. تجرى صوب البحر .. وقلبى يلهث خلف نداوة ضحكتها ذكرتنى بحكايات والدتى عن خوفى من البحر ، صرخاتى :
( بحر لا يابابا ) ..
علت البسمة وجهى من ذكرياتى .. رمقتنى بنظرة خاطفة ، وجدتنى أمعن النظر إليها ، إزداد تورد وجنتيها واستدارت ، باغتتنى وهى تقترب تتودد ، عادة الأطفال النفور والابتعاد ، أماهى فلا ...
إنها تملك ملامح من طفولتى الغضة .. همست لها :
-ماأسمك ؟..
-سلمى ...
-و...أنت ؟
-هالة ...
-تلعبى معى ؟
-ماذا نعلب ؟
-نعمل بيت للعصفورة ..
-صفعتنى الصغيرة بكلماتها ، ضاق صدرى ، تبخرت أنفاسى ، كم من مرة حاولت تحطيم قيودى ، هزتنى بأصابع رقيقة كومضات الضوء ، أفقت :
-العصفورة تحب الحرية والسماء ياسلمى ..
-بيت للسمكة !
-السمكة تحب الماء .. تموت إن خرجت تتحول لطعام نأكله ...
أونزين به منازلنا .. كما صرت أنا ...
-هل تحبين السمك ياسلمى ؟
-لا ...
-بيت لسلمى وهالة .. ما رأيك ؟
-وتنامين معى ؟
كم تمنيت أن يضم فراشى البارد جسدا طريا ، يوقظنى عدة مرات، للماء ، الحمام ، وينادى .. ماما ، ضممتها لصدرى .. بدأنا نحفر ، تحمل لى الماء وأشيد منزلا ، بسور وحديقة .. ضحكت سلمى فتمدد البحر ، ثم انحسرت أمواجه سريعا قبل أن تدرك بيتنا الجديد ، ضمتنى عيناها ، كتبتٌ سلمى وهالة اسم لبيتنا الجميل ، عنوانه كل الشواطىء ، سألتنى سلمى :
-كيف ندخل البيت ؟!
-دققت النظر وجدت .. لاباب ، لاشباك ، أشبه بسجن زرعت نفسى فيه .. لأنى عاقر ، سمكة للزينة ، أنقبضت :
-كيف أنسى ...
ضحكت سلمى فعاود البحر تمدده ، ظلت تضحك وهو يتمدد ، سحبت الأمواج أسمى من فوق الرمال ، هدمت الأسوار ، انحسرت ، نظرت مكانها فإذا باسم سلمى مازال منقوشا فوق الرمال .
تذكرت والدى يوم بنى لى بيتا مثل هذا ونقش أسمه بجوارى ، ابتلعه البحر .. هل .. ؟!
سلمى ، سلمى .. نظرت خلفى ، الأم تقترب بالمناشف تحملها وتنصرف وهى تنظر من فوق كتف الأم ، تودعنى بابتسامة ذابلة وأجفان متثاقلة .. ابتعدت وظللت جالسة فوق الرمال ، والموج ينحسر عن قدمى ، عن بيتى المتهدم ، يذهب بعيدا يلثم أشعة الشمس البرتقالية ، لكن آثار خطوات سلمى مازالت منقوشة فوق الرمال ...
* * * *
نشرت بجريدة المساء أكتوبر 2...