جنازة .. سارة جداً !!


جنازة .. سارة جداً !!

صفق الباب خلفه ، ابتعلت خطواته درجات السلم ، انسلت من باب العمارة داعيا :
                 -زلزال يارب .. لماذا تغمض الكوارث العين عن زوجتى ..
لسانها منجل يحصد الابتسامات .. هات .. هات لاتخطىء يوما وتلفظ خذ ..
بلا هدف يطوى الشوارع . تطالعه النساء فى أشكالهن ، سمينة ، نحيفة، طويلة ، قصيرة ، يشتركن فى مقاس اللسان الطويل ..
نظر حوله .. القلعة .. شعر بالتعب فجأة لمجرد تذكره أنه مشى من الهرم ، أنحط جسده على كرسى فى مقهى ، مدد قدميه ، خلع حذاءه ، غفا ، استيقظ على صوت الرجال يهمهمون ( لاإله إلا الله ) يسيرون فى صفوف ، أمامهم ‘‘ نعوش‘‘ مغطاة بمخمل أسود ..
                 -ياساتر ...
ابتساماتهم تعلو وجوههم .. تُرى لمن الجنازة الجماعية تلك .. ماذا حدث ؟!
قال أحد المشيعين لرفيقه :
                 -النساء تموت بالجملة .. بركة من عند الله .. الحمد لله .. أقصد لاإله إلا الله .. لاإله إلا الله ...
                 -هل تعنى أن كل النساء ماتت ؟!
                 -بعض الأحياء تطهرت منهن جميعا .. وبعضها مازالت تنتظر !!
                 -ماذا عن حىّ الهرم ؟
                 -الهرميات .. كلهن متن !!
هرول الرجل تاركا حذاءه .. نادى عليه النادل لم يجب ، خفت آلام قدمه ، لم يشعر بسخونة الأسفلت .. لم يسمع سباب المارة الذين يصدمهم وهو يعدو ..
التهمت قدماه السلم فى قفزة واحدة ، فتح الباب .. صمت .. نادى .. أنصت للفراغ يردد الصوت .. قهقه .. ارتمى فوق الأرض .. خلع القميص .. ألقى به فوق نجفة الصالون .. يهتف :
                 -زوجتى ماتت .. شكرا يارب قبلت دعائى .. ليتنى دعوتك بحورية تهبط من الجنة بدلا منها .. حورية لها شفاة وردية.. جسد مرمرى..
سمع صوتا خلفه :
                 -لماذا يرسل الله لك حورية وأنت شيطان ؟
التفت ... صرخ ...
                 -عفريته ... أنت .. ألم ... لا ...
فتح باب غرفة الأولاد صرخت حماته مهللة :
ماهذه الدوشة .. لماذا تقف عاريا .. يا‘‘ مخبول ‘‘ ..
بحلق فى وجه حماته نفس ملامح زوجته لسانها يخرج يسعى يلتف حوله، يسقط ... لايتنفس ..يُحمل إلى قبره يمرون به من الهرم إلى القلعة إلى السيدة عائشة
هجـــــرة

أخرجت المُدرِسة القلم من حقيبة فوزية ، بحقلت مع صديقاتى مكذبة عينى ، وبين ذهولنا وانتظارنا للرد سقطت مغشيا عليها ، حملناها لطبيبة المدرسة .. عرقها يختلط بالدموع ، صرخت :
                 -لاتحرقوا الزيتية .. أخى .. اسماعيل .. هناك ..
غاب وعيها ولم تغب الدموع ، صدرها يعلو ويهبط ، هبت صارخة :
                 -لن أهاجر ، سنموت هنا ...
ضمتها الطبيبة لصدرها :
                 -فوزية .. فوزية .. أفيقى ، أنت هنا فى المدرسة ..
هدأت .. تعلقت بى مستعطفة :
                 -أريد العودة إلى أمى ..
حملت عنها حقيبتها وحملت هى همومها .. إنصرفنا ، نظرت لى فوزية:
                 -لأول مرة سترين مسكننا ، تأملى حالنا جيدا ، مدرسة قديمة نعيش فيها ، كل عائلة لها (فصل) هو حجرة نومها ومعيشتها ومطبخها ، الحمام مشترك كما ترين ، بالتأكيد لم تستحمى بالليل – مثلنا- هربا من العيون المخترقة للأجساد ..
فى اضطراب همست مترددة كأنها تتوجس منى :
                 -لم أسرق القلم لست سارقة .. مسروق منى كل شىء .. لماذا تنظرون لنا كأننا لسنا منكم ؟! كل جرم لابد أن يكون الفاعل من المهجرين .. دخلت معها الحجرة ، تجلس أمها على الأرض أمام موقد نار بعين واحدة تطهو الطعام ، ملابس معلقة ، على الحائط ستارة تشق المكان نصفين ، صناديق وضعت عليها الكتب، استقرت عينى مرة ثانية على الأم ، وجهها إتشح بعصابة سوداء بلون جلبابها :
                 -ماذا حدث يافوزية ؟ لمذا عدت باكراً ؟
                 -شعرت ببعض الألم فى معدتى .. هذه صديقتى الوحيدة هدى حدثتك عنها طويلا ..
                 -نعم ... أهلا ياابنتى .. لاتؤاخذينا .. المكان ..
                 -إن شاء الله تعودون قريبا لبيتكم ..
تركتهما بجسدى انسحبت أجر قدمى ...
قصصت ماحدث لأسرتى .. قال أبى : تستطيعين تقوية علاقتك بها ودعوتها للمذاكرة معك هنا .. لكن من فعل بها هذا المقلب؟
                 -بنات فى الفصل يكرهنها ، لأنها متفوقة ، مؤدبة وفى حالها ..
المُدرِسة ستحقق غذا وسأشهد معها بما رأيته سالفا من إضطهادهن لها
حملنا أبى فى سيارته للنزهة فى الفيوم ، قالت فوزية :
                 -جــنة ...
توهج وجهها ، إنتفضت شفتاها وهى تهمس :
                 -لو رأيت ‘‘ الزيتية ‘‘ وهى تحرق .. ستون فنطاسا من زيت البترول .. لهب النار يصل للسماء ، يحرق طيرها ، يذيب السحاب ، أربع ساعات فقط ، أحالوها إلى جهنم .. هل يٌحرق الملائكة فى النار ياهدى؟
                 -اسماعيل أخى ملاك .. عطوف .. كان فى الزيتية ، ذهب فى الصباح ولم يعد ..
                 -لم ننم ليالى طويلة ، ليس فقط حزنا على أخى ، النار أحالت ليلنا ظهرا ثقيلا ..
تحسستها فى هدوء ، جسدها ساخن ينتفض
                 -عليك بالنسيان يافوزية .. أخوك سننتقم له ...
استرسلت كأنها لاتسمعنى ..
كان اليهود يخزنون الصواريخ فى الجامع ، فلا نستطيع ضربه أو حرقه، كنا نموت كل يوم ، ساعات الضرب فى الصباح من السابعة والنصف لمدة ساعة وقت ذهابنا للمدارس ، والدى كان يخرج لعمله وهو يردد الشهادة ، لايتوقفون حتى يسقط من لاثمن لهم ، وفى شهر نوفمبر .. قرروا تهجيرنا .. حملت مقعدا ، جلست تحت سلم بيتنا قلت لأبى :
                 -فليسقط فوقى ، لن أبرحه ..
حملنى أبى عنوة ، شحننى فى سيارة نقل مع قليل من الأدوات المنزلية وكثير من الأطفال والنساء والعجائز والبكاء والصراخ .
قاطعتها :
                 -فوزية .. جئنا نمرح ، نركض ، نسبح فوق الخضرة ،...
شكانا يوماً جارنا .. عذرا .. أقصد رجل يسكن فى منزل مقابل للمدرسة قال :
                 -المهجرون ‘‘ وسخوا ‘‘ المنطقة بالقمامة ...
                 -توقفى .. كفى حزنا ، نحن أيضا نكبدهم خسائر ، أنسيت المدمـرة إيـلات ، والقطعـتين الحربيـتين ‘‘ بيت شيفع ‘‘ و‘‘ بيت يم‘‘ ،
لن يقتلك اليهود ، ولاقسوة الجيران ، بل حزنك هذا ..
                 -لابيدى إلا الحزن ...
                 -الأمل يافوزية ... الأمل ...
                 -جرحى عميق ..
                 -سوف يبرأ ...
لفنا الصمت ونحن نتأمل الطيور المهاجرة فوق بحيرة قارون ، تتجه نحو الغرب ..
* * * *