خـــادمة
كنت قد ( سرحت ) إلى الغيط بالبقرة الوحيدة لدينا ، تركتها ترعى وجلست تحت شجرة أتأملها تلتهم البرسيم ، كثيرا ماهفت نفسى لأشياء أطعمها ولكنى دائماً أنتهى إلى كسرة الخبز الجافة وقطعة الجبن القريش التى أحملها فى مخلتى ..
جاء أخى الأصغر مهرولا إلى :
-لدينا ضيوف من "سيدى أبو المجد" ، جاءوا يطلبونك ...
تقافز قلبى طرباً : من العريس ؟
-عريس ؟ أى عريس ؟
سقطت منى فرحتى على الأرض وسقطتٌ معها ألوذ بعيدان البرسيم .
-إذاً لماذا حضروا ؟
-يريدونك لأبنتهم فى القاهرة ..
- خادمة : لا .. إلا خدمة البيوت .. لا وشقت صرختى صفحة السماء ، فبات نصفها بلا شمس والنصف الآخر شمسه تحتضر ، تحاملت على نفسى ، أمسكت رسن بقرتى عائدة إلى منزلنا تتثاقل خطواتى ، تأبى أن تترك هذا المرماح الذى يتسع لكل أحلامى ..دخلت على أبى وزوجته وإخواتى يتقافزون فرحاً ..
-مبروك ياروحية : جالك شغل فى مصر عند سيدة طيبة جداً و... و... و....
لم أستمع للغطهم ، هرولت إلى أمى فى حجرتها ، وجدتها تبكى وقد عصبت رأسها ، ألقيت همى بين أحضانها ، غفوت فوق حجرها ، لم تكن تملك لى شيئاً .. العيال كثيرون والحمل ثقيل على أبى فلديه زوجته الثانية وأولاده منها ، غيرى وأمى ...
فى الصباح حملتنى سيارة ، بين دموع أمى وفرحة إخواتى :
إنكفائها تنتحب .. وقفزهم فوق السيارة يلمسونها ويحسدوننى لأنى بداخلها .. قال أبى :
-السيدة طيبة أصلها من "سيدى أبو المجد" المجاورة لنا ، عائلة كريمة تخاف الله وسوف يرعونك جيداً ..
وأمى من تحت دموعها :
-خذى بالك على نفسك ياابنتى .. وأنقطع صوتها ..
شقت السيارة الغيطان والترع حتى الأسفلت الأسود المغسول بدموعى .. وجدتنى وسط الزحام ، الصراخ ، ونفير السيارات والسباب لكل شىء ، ياه حتى نسمة الهواء تختنق بالقاهرة لست وحدى من يختنق .. وسألت قائد السيارة الذى عرفت فيما بعد أنه أخو السيدة التى سأعمل عندها ، شكله طيب ينظر بعطف منذ أول الطريق ، لم يفتح فمه إلا عندما وصلنا .. سألته :
-هل هنا سوق اليوم ؟
ابتسم قائلا :
-هنا السوق كل يوم ولا أحد يشترى ..
لم افهم كلامه .. وصلنا للسيدة ، إنها صغيرة ، ليست كأمى ، أبنتها فى العامين وزوجها ودود ، برودة ما تجمد مفاصلى وعظامى .. جلست لا أتكلم ، هم أيضاً لم يتكلموا كثيراً ، وضعت السيدة صينية من الطعام أمامى وانصرفت أجلستنى فوق المنضدة ، رفضت أن أجلس فوق الأرض ، منحتنى سريراً فنمت بجواره .. أشتاق للخبز الجاف والنوم على (الحصيرة) بجوار أمى ، لاأريد أن ألتحف ستاناً ، حضن أمى أدفأ.
السيدة تركت معى صغيرتها وخرجت ، حملت الطفلة إلى كيساً من الحلوى ، دفعتها به وجلست أبكى ، وقعتْ على الأرض ، أشفقت عليها رفعتها ، ابتسمت ومدت يدها بالكيس مرة أخرى ، فتحته وأعطيتها مابه، جلست تأكل حتى نامت دون ضجيج أو بكاء كأنها تشعر بى ، حملتها فى حجرى ضممتها عفوياً أتشمم فيها دفئها ..
جلست على الأرض أخاف أن أنام فى هذا السرير ، لم أشعر بغربة عن صاحب البيت إنه يدلل السيدة والطفلة ، أشعر نحوه بحميمية ..
سمعت صوت المفتاح فى الباب ، لم يتأخرا على إنها أول ليلة لى لعلهما خافا على الصغيرة ..
أقبلت السيدة على طفلتها ، قبلتها ، أدعيت النوم جالسة على الكنبة لم توقظنى ، حملت الصغيرة أمالتنى ، غطتنى ، ربتت على كتفى ، أطفأت النور ، خرجت اجتاحتنى نوبة بكاء .. هى حنون لكنها ليست أمى.. فى الصباح بدأت أحدق بكل شبر بالمنزل لا أعرف ماذا أفعل ، لم أتعود خدمة البيوت ولا أدرى كيف تستخدم الأشياء ، الفجر يؤذن وأنا جالسة أتذكر بقرتى :
من يسحبها الآن للجرن ؟ ! من يجلس تحت شجرتى ؟! والشمس على من تسطع فى بلدتى الآن ؟! أمى هل جففت دموعها ؟!
أفقت من دموعى على صوت السيدة :
-روحية ..
هممت أجرى .. أوقفتنى ، أنى لا أعرف الغرفة .. ضحكت السيدة قائلة :
-يافلاحة من هنا .. ابتسمت لأول مرة ..
-قالت : كل شىء جديد أعرف، أنك جاهلة !! سأعلمك ..
قسوة عيشتى الأولى بدأت تذوب من ذاكرتى ، غيرت ملابسى ، كشفت شعرى ، قدمى اعتادت الحذاء ، عرفت النوم متأخراً..
مع السيدة رأيت القاهرة الحلم ، بوجوهها المتقلبة .. السيدة تكرهها فى الزحام .. تهيم مثلى بالريف ، تمازحنى ..
-أنت تحملين رائحة الطين هناك ..
تضحك عاليا .. تعجبنى ضحكتها.. طريقة كلامها.. عوضتنى عن أمى ، حتى عندما تنفعل
بدأت أخاف أن تعيدنى إلى زوجة أبى ، تزداد هواجسى مع اقتراب أجازتى ، السيدة تأخذنى للبلد تقود السيارة بعصبية ، تسألنى مرات ،
-هل ستعودين ؟ !
-نعم ...
نزلت من السيارة فى ثيابى الجديدة ، نظروا إلى مندهشين كأنى فتاة أخرى غير التى سافرت ، ورأيت فيهم غرابة ما ..
ارتميت فى حجر أمى ، ضمتنى لصدرها ، أبعدتنى ، نظرت فى وجهى:
ربنا يخلى الست ، هكذا قالت ، ضمتنى ثانية ، لم تبك ، دخلت السيدة على أمى نقضتها لفافة من المال ، حسابى لديها يأخذه والدى ، قالت :
- دول من روحية لك .. ولاتخافى عليها ..
وقتها أردت العودة معها .. أحببت اسمى .. ومهنتى الجديدة خادمة .
****